موقع الدكتور فلاح خلف الربيعي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
و أهلا وسهلا بكم

د.فلاح خلف الربيعي

صورتي
كلية الادارة والاقتصاد / قسم الاقتصاد / الجامعة المستنصرية

الجمعة، نوفمبر 07، 2008

فقاعة التفوق الأميركي

يفاجئ جورج سورس الملياردير الأميركي ذو الأصول الأوروبية الشرقية قراءه في كل مرة يكتب فيها، فهو وإن كان مدينا بامتياز للعولمة التي جمع من خلالها ثروته الهائلة، فقد كتب بشراسة ضدها وضد انفلاتاتها وآثارها على الدول النامية في كتابه عن العولمة.
في الصفحة الأولى يقول : سأبذل كل جهدي حتى لا يفوز جورج بوش في الانتخابات الرئاسية القادمة.
وفي سياق هذا الجهد يشرّح أوجه الخراب التي ألحقتها إدارة بوش الجمهورية بالولايات المتحدة داخليا وخارجيا. في السطر الأول من الكتاب يقول "إنني أعتبر سياسة بوش التي تتبنى الضربة العسكرية الوقائية مدمرة، وكذا يعتبرها كثيرون حول العالم".
الداروينية الأميركية الحاكمة
يقسم سورس كتابه إلى جزأين: الأول "رؤية ناقدة" والثاني "رؤية بناءة
ويتوزع كل قسم على عدة فصول. في الجزء الأول يفكك وينتقد ويهاجم ويتهم، وفي الثاني يقدم البدائل فيصوغ ما يراه حلولا ومقترحات تخرج بأميركا من الوحل الذي ورطها فيه جورج بوش كما يرى.
قاعدة انطلاقه في نقده لأميركا بوش وإدارته هي ما يراه من أن حكومة أقوى دولة على وجه الأرض وقعت في يد من يراهم "مجموعة من المتطرفين الذين تقودهم الصيغة الفجة من الداروينية الاجتماعية".
وهو يفضل استخدام وصف "الداروينية الاجتماعية" للإشارة إلى اليمين الأميركي الحاكم عوضا عن وصف "المحافظين الجدد". فالداروينية تعني "البقاء للأصلح"، وهي متوحشة وتعبر عن توحشها في الاقتصاد عن طريق حصر التنافس بين الشركات الكبرى وقتل الصغرى. وفي السياسة تحصر التنافس بين الدول فتطيح الكبرى بالصغرى أيضا.
سيطرت شعارات "المشروع الأميركي للقرن الجديد" على الخطاب الرسمي في حقبة ما بعد 11 سبتمبر، حيث أصبحت قيم الحرية هي القيم الأميركية والسير نحو تحقيق المصلحة الأميركية يخدم بالتوازي المصلحة العالمية
يرصد سورس جذور الداروينية الأميركية الحاكمة في "مشروع القرن الأميركي الجديد" الذي صاغته عام 1997 مجموعة من المحافظين الجدد دعوا فيه إلى انتقال أميركا إلى مرحلة الهجوم والسيطرة العالمية من دون تحفظ، من أجل الحفاظ على الموقع القيادي لها في القرن الحادي والعشرين.
أميركا -بحسب المشروع ذاك- يجب أن تنطلق لتحقيق أهدافها غير آبهة باعتراض الأمم الأخرى، وهي لن تتوقف كثيرا عند مسألة التعاون مع الدول أو الأمم المتحدة إن هي رأت أن مصالحها يمكن أن يتم تحقيقها من دون ذلك. على أميركا أن تواجه بالقوة العسكرية والحزم أي دولة تتحداها، وعليها أن تثبت أن بمقدورها القيام بذلك من دون تردد.
وتوج المشروع بوثيقة يوردها سورس في كتابه عنوانها "بيان المبادئ". ولا تتمثل خطورتها في نبرتها الهجومية والشبق نحو السيطرة فحسب، بل في مجموعة الأسماء الموقعة عليها.
فهي تحتوي على شخصيات أصبحوا فيما بعد هم الحكام المباشرين للولايات المتحدة في إدارة بوش، ومن ضمنهم: نائب الرئيس ديك تشيني، ووزير الدفاع دونالد رمسفيلد، ونائبه بول ولفويتز، وغيرهم ممن أصبحوا مستشارين ومقربين، إضافة إلى عدد من مفكري اليمين المشهورين مثل فرانسيس فوكوياما ودونالد كيغان.
كانت تلك "المبادئ" والمشروع الذي تحمله بحاجة ماسة إلى ظرف تاريخي كي تقتنصه فتنقل من أفكار على الورق إلى تطبيق على الأرض، وهذا ما وفرته تفجيرات 11 سبتمبر/ أيلول "الإرهابية الغبية" على طبق من ذهب.
فالذي حدث كما يقول سورس أن "داروينيي" إدارة بوش لم يضيعوا دقيقة واحدة وهم يفركون أيديهم غبطة على توفر الفرصة السانحة، لذلك كانت ردة الفعل الأميركي على تلك التفجيرات مفاجئة للجميع، لأنها في الواقع لم تكن خاصة بالتعامل مع حدث ظرفي بقدر ما كانت معنية بتطبيق إستراتيجية جاهزة كانت تنتظر لحظة نضوج ظرفها الموضوعي.
ويلحظ سورس كيف أن "مبادئ" وشعارات "المشروع الأميركي للقرن الجديد" سيطرت وطغت على الخطاب الرسمي السياسي والإعلامي في حقبة ما بعد 11 سبتمبر/ أيلول. فقد كرر بوش بلا ملل أن قيم الحرية هي القيم الأميركية وهي التي يجب أن تنتشر، وساوى بين مصالح أميركا الخاصة ومصالح العالم بأسره، بما يعني أن السير نحو تحقيق المصلحة الأميركية يخدم بالتوازي المصلحة العالمية.
هذا الفكر الإمبريالي قيمياً والمطبق عسكرياً في أفغانستان والعراق هو الإطار العام "لفقاعة التفوق الأميركي" كما يراها سورس، وهو يرى أن نهاية تفوق أميركا وفقدانها لموقعها القيادي في العالم سيكون النتيجة الحتمية لمثل هذا الفكر.
ولهذا السبب فإنه يستشعر "ضرورة أن يهب هو والمخلصون من الأميركيين" لوقف هذا الانحطاط السياسي وإنقاذ أميركا من العصبة اليمينية الحاكمة. والغريب في تشكيلة هذه العصبة كما يرصد سورس، أنها تتكون من مجموعات متنافرة فكريا.
”في عهد بوش وحروبه "الإلهية والتبشيرية والوطنية" تحول نقاد السياسة الخارجية ومعارضوها إلى خونة يُشك في ولائهم للوطن، وصار التقييم يعتمد مبدأ "معنا أو ضدنا" من دون تفاصيل أو لكن”
أصوليون أميركيون فمن جهة هناك أصوليو المسيحية المتصهينة المتطرف المنضوي تحت الحزب الجمهوري والذي يرى في جورج بوش صورة من صور الإيمان المسيحي النقي. ومن جهة ثانية هناك أصوليو السوق الذين يؤمنون بقدرتها الخارقة على تحريك وقيادة العالم نحو سعادته المرجوة، ولا يترددون في فرض هذا الإيمان على العالم بكل الوسائل. وكما أن الأولين ليسوا بالضرورة أصوليي سوق، فإن الآخرين ليسوا حتما ملتزمين دينيا أو حتى مؤمنين.
إضافة إلى هؤلاء وأولئك، هناك أصوليو الهيمنة الأميركية الذين يؤمنون بحتمية ومركزية وضرورة بقاء أميركا في موقع متحكم في العالم، استنادا إلى مزيج من التحليل الإستراتيجي والشعور بنوع من الرسالية التي تعتقد أن الله يقف إلى جانب الولايات المتحدة.
جورج سورس يفكك كل هذا التشكيل ويشبعه نقدا، ويرى أنه يمثل الخطر الداخلي الحقيقي على الولايات المتحدة. لكنه ينبه في الوقت ذاته إلى أن خطورة الوضع الأميركي الحالي- المرتكزة شرعيته على حتميات "الحرب ضد الإرهاب" والإعلاء من وطنية من يؤيدها- تمتد لتصل حد اغتيال تقليد من أهم تقاليد الحياة السياسية والديمقراطية الأميركية، وهو تقليد المعارضة والتمرد.
ففي عهد بوش وحروبه "الإلهية والتبشيرية والوطنية" تحول نقاد السياسة الخارجية والمعارضون لها إلى خونة ولاوطنيين يُشك في ولائهم للوطن. وصار التقييم يعتمد مبدأ "معنا أو ضدنا" من دون تفاصيل أو لكن.
يقول سورس -محقاً- إن أحداث 11 سبتمبر/ أيلول كان يجب أن تُعامل على أنها جريمة ضد الإنسانية وليس عملا يستدعي إعلان الحرب في كل مكان. فتلك الجريمة تم التنديد بها من قبل كل دول ومجتمعات العالم، وحظيت الولايات المتحدة والأميركيون على أوسع قدر متخيل من التعاطف العالمي.
وكان بالإمكان استثمار ذلك التعاطف لتقوية العلاقات الأميركية بكل دول ومجتمعات العالم وتجييشها برغبتها للعمل ضد الإرهاب، على قاعدة التعاون المتكافئ وليس الفرض الفوقي القسري.
لكن ما حدث هو أن أميركا أرادت أن تتحرك بانفرادية معتمدة سياسة فرض لا نقاش فيها، مما أفقدها لحظة التعاطف التاريخية تلك التي كان بالإمكان جعلها نقطة مفصلية للحد من العداء المتبادل بين أميركا والعالم.
والخلاصة لذلك كله هي -كما يجملها سورس- أنه لم يمر وقت على الولايات المتحدة تدهور فيه وضعها في العالم في وقت قياسي وقصير جدا كما هو في عهد جورج بوش الابن.

فقاعة السيولة
حذر رئيس البنك الدولي روبرت زوليك من خطر تشكل فقاعة جديدة سماها (فقاعة السيولة) للأسباب التالية:‏
أولاً, حاولت البنوك المركزية في العالم والبنوك الوطنية منذ بدء الأزمة المالية ضخ كميات كبيرة من السيولة في محاولة منها للحؤول دون المزيد من الإفلاسات, وتسهيل عملية الإقراض عبر توفير الأموال في المصارف, وأدى هذا السلوك إلى توفر سيولة لدى المصارف أعلى بكثير مما كان لديها في أي وقت مضى, وبديهي أن المصارف التي تحجم الآن عن الإقراض بسبب عدم الثقة السائد ستواجه تحدي توظيف هذه السيولة.‏
ثانياً, الانكماش الحالي والتباطؤ الاقتصادي الذي سبق اندلاع الأزمة المالية نابع من درجة من درجات الإشباع, أي أن مجالات التوظيف, خاصة في الاقتصادات المتقدمة ضعيفة للغاية قبل اندلاع الأزمة. والآن بعد اندلاع الأزمة وانتقالها إلى الاقتصاد الحقيقي وتحديداً الصناعة والزراعة والخدمات, أي انتقالها إلى قطاعات إنتاج السلع الحقيقية, بات من الصعب على الشركات اقتراض المزيد من الأموال لزيادة إنتاجها في وقت تواجه أزمة في تصريف إنتاجها الحالي, وبديهي أن هذا عامل آخر لا يشجع على الإقراض, وبالتالي يسهم في بقاء السيولة في خزائن المصارف, فالمصارف لديها سيولة الآن أكبر من حجم السيولة في الظروف العادية, نتيجة ضخ المصارف المركزية المزيد من السيولة في الأسواق لمعالجة الأزمة المالية, وإحجام الاقتصاد الحقيقي عن الاقتراض بسبب التباطؤ والانكماش اللذين يشكلان عاملين أساسيين لتشكيل فقاعة السيولة.‏
ثالثاً, كان الرهان أن خفض أسعار الفائدة من شأنه أن يحد من تراكم السيولة ويحول دون تحولها إلى فقاعة, لكن هذا صعب للغاية لأن معنويات المستهلكين في الحضيض وهم في ظل الأزمة العقارية, وارتفاع ديون المستهلكين بمعدلات كبيرة, وفقدان جزء كبير من فرص العمل بسبب الانكماش, يجعلهم غير مستعدين للاقتراض مهما كانت أسعار الفائدة متدنية, وهذا يسهم كعامل ثالث في تفاقم أزمة السيولة, رغم أن خفض الفائدة كإجراء هدفه الأساسي منع تحول السيولة إلى فقاعة.‏
ما الذي يمكن فعله لتدارك هذا الخطر?.‏
من الواضح أن حكومات الدول المتقدمة ليس لديها الكثير لعمله, سوى ضخ السيولة في الأسواق لحفز المستثمرين والمستهلكين, وبالتالي مواجهة الركود والأزمة المالية, وضخ السيولة يحمل معه في ظل الوضع المتعب للمستهلكين وتشبع قطاع الاستثمار, خطر تشكل فقاعة, وهكذا يبدو أن صانعي القرار الاقتصادي لا يملكون حرية المناورة وقد يكون التحذير الوسيلة الوحيدة التي يملكونها على هذا الصعيد.
الأزمة المالية في الولايات المتحدة وأزمة عام 1929
ثمة توقعات كثيرة تتداولها وسائل الإعلام المختلفة تشير الى احتمال ان تتحول الازمة المالية التي عصفت بالاقتصاد الاميركي وكانت لها تداعيات سلبية على البورصات العالمية الى انهيار اقتصادي شبيه بالانهيار الذي حدث عام 1929 ، الذي سمي انذاك بالانهيار العظيم فهل تتحول فعلا الازمة المالية الاميركية الى انهيار عظيم?‏‏‏ الارجح ان ذلك لن يحدث وذلك في ضوء عاملين اساسيين:‏‏‏
الاول اختلاف طبيعة الازمة فأزمة عام 1929 كانت ازمة فيض انتاج وهي تعبير عن الازمات الدورية التي شهدها النظام الرأسمالي والذي رافقت وجوده منذ ان اصبح النظام الاقتصادي المهيمن على وسائل الانتاج وازمات فيض الانتاج التي تحدث دوريا وتتسبب بالازمات تنجم عن واقع ان المصانع والمزارع تنتج المزيد من السلع وتتنافس فيما بينها على الاسواق ولكن حجم هذا الانتاج يصل في مرحلة معينة الى انه يصبح اكبر من الطلب ويضطر اصحاب المصانع والمزارع الى ابطاء الانتاج واحيانا الى اتلاف الفائض في منتجاتهم مثلما حدث في ازمة عام 1929 لاعادة التوازن الى العلاقة بين العرض والطلب وقبل حدوث ذلك تقع الانهيارات التي تحولت بعد ازمة عام 1929 الى دورات ركود بدلا من الانهيار بسبب القيود التنظيمية والاجرائية التي استخرجت بعد ازمة 1929 لكن الازمة الحالية ليس ازمة فيض انتاج فهي لا تعبر عن واقع ان المصانع والمزارع انتجت كمية هائلة من السلع وان العرض صار اكبر بكثير من الطلب وبالتالي بات الانهيار التصحيحي امرا لا مفر منه لاعادة التوازن من جديد للعلاقة بين العرض والطلب , الازمة الحالية رغم ان اسبابها العميقة تعود الى نوع من انواع الكساد والفوضى الذي اصاب الاقتصاد الامريكي وتراجع حصة الولايات المتحدة من اجمالي الناتج العالمي والاختلالات الحادة التي يعاني منها الاقتصاد الامريكي وتراجع حصة الولايات ان لجهة عجز الحساب الجاري وعجز الموازنة وارتفاع المديونية الا ان الازمة الحالية نابعة من عوامل تتعلق بمدى فعالية النظام المالي والاقتصادي وانحسار دور الدولة بعد ان تم التخلي عن القيود التي فرضت بعد ازمة 1929 حيث ترك القطاع المالي يعمل على هواه من دون اية ضوابط ورقابة فعالة وارتكاب اخطاء قاتلة تسببت بالازمة الحالية.‏‏‏ ولكن حجم دور البنوك في الاقتصاد الاميركي هو الذي جعل الازمة تأخذ هذه الابعاد الخطيرة ولكنها لن تصل الى المستوى الذي بلغته ازمة عام 1929 مهما كانت تداعيات انهيار القطاع المالي.‏‏‏
الثاني عولمة الاقتصاد التي تلعب الان دورا كبيرا في الحؤول دون بلوغ الازمة المالية في الولايات المتحدة المستوى الذي بلغته ازمة عام 1929 اي انهيار عظيم فالعولمة خلقت روابط ومصالح مشتركة وبالتالي بات من مصلحة معظم اقتصادات العالم المسارعة الى نجدة الاقتصاد الاميركي والحؤول دون انهياره ليس حبا بالولايات المتحدة بل دفاعا عن مصالح الدول التي ضخت عشرات مليارات الدولارات في اسواقها المالية لمساندة الاقتصاد الامريكي ولقطع الطريق على احتمالات الانهيار فالولايات المتحدة اكبر سوق لتصريف البضائع الصينية والاوروبية واليابانية وبالتالي فان الانهيار الاقتصادي الشامل سيؤدي الى انهيار هذه السوق وذلك سيؤدي الى انهيار اقتصاديات تلك الدول ولهذا ستبذل هذه الدول كل ما بوسعها للحؤول دون وقوع هذا الانهيار.‏‏‏ تضافر هذين العاملين هو الذي يحول دون تكرار تجربة انهيار عام 1929
صندوق النقد الدولي والأزمة العالمية وسـبل الحل
اعتاد صندوق النقد الدولي الذي تبني وصفات شديدة الليبرالية عند اقتراح الحلول لمعالجة الأزمات الاقتصادية,وكان يدعو دائماً إلى خفض الإنفاق العام, أي الإنفاق الحكومي, وضبط توازن المالية العامة من خلال اعتماد سياسة التقشف.‏ وفسرت هذه السياسات على أنها النقيض للمدرسة الكينزية التي كانت توصي دائماً في مواجهة الأزمات الاقتصادية بتوسيع الإنفاق العام حتى وإن أدى ذلك إلى اختلال توازن المالية العامة, وكانت حسابات المدرسة الكينزية تقوم على خلاصة مفادها أن ضخ الأموال العامة في المشاريع الاقتصادية يعيد تنشيط الطلب ومكافحة البطالة, وتنشيط الدورة الاقتصادية, وكل ذلك من شأنه أن ينعكس لاحقاً بشكل إيجابي على المالية العامة عبر عائدات الضرائب ويمكنها من تعويض ما خسرته في السابق عند الإنفاق الحكومي.‏ ويبدو أن فعالية المدرسة الكينزية في مواجهة أيديولوجية صندوق النقد الدولي استمدت أهميتها وتفوقها من واقع التجربة, فالمدرسة الكينزية كانت ثمرة لجهد مركز لمعالجة الأزمة الاقتصادية التي ضربت اقتصادات الدول المتقدمة في عقدي العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي, وقد حققت نجاحاً حينذاك, ولهذا فإنها لا تزال تتمتع بقدرة على توليد الحلول أكثر بكثير من وصفات أيديولوجية صندوق النقد الدولي التي كانت وراء خراب الكثير من الاقتصادات التي أخذت بها, وخاصةً في عقد التسعينات, حيث أرجع خبراء كبار على رأسهم جوزيف ستيغلتيز الحائز على جائزة نوبل بالاقتصاد, انهيار اقتصادات دول عديدة, وخصوصاً في أميركا اللاتينية, جراء التزامها الحرفي بإيديولوجية وصفات صندوق النقد الدولي.‏ اليوم يبدو أن خبراء صندوق النقد الدولي ذاتهم سلموا أخيراً بصحة المدرسة الكينزية وفعالية حلولها في مواجهة الأزمات الاقتصادية, وخصوصاً الأزمة الحالية التي تعصف بالاقتصاد العالمي وتشبه أزمة عقدي العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي.‏

ففي أحدث تقرير صدر عن صندوق النقد الدولي مؤرخ بتاريخ 29 كانون الأول عام 2008 شدد لأول مرة في تاريخه على أهمية ما أسماه الحاجة إلى دفعة تنشيطية مالية, مشدداً على أن «الهبوط الكبير في مستوى الطلب يستلزم دفعة تنشيطية كبيرة من المالية العامة» ينبغي أن تركز هذه الدفعة على «الإنفاق والتخفيضات الضريبية» وهذه عينها الاقتراحات التقليدية التي تتبناها المدرسة الكينزية في سياق تصديها للأزمات الاقتصادية عندما تقع هذه الأزمات, وفي السياق اقترح خبراء الصندوق تبني سياسة فعالة في مواجهة الأزمة الاقتصادية العالمية تستند كما يقول هؤلاء الخبراء على استخدام السياسة النقدية لزيادة الطلب, وهو ما يتناقض مع جوهر مدرسة وأيديولوجية صندوق النقد القديمة.‏ ويبرر خبراء الصندوق هذه السياسة بالقول إن هناك انكماشاً متواصلاً في ساحة التيسير النقدي المتاحة, لأن أسعار الفائدة على أدوات السياسة النقدية تقترب من الصفر في بعض البلدان, وكانت أسعار الفائدة الوسيلة الوحيدة التي يقر صندوق النقد الدولي باعتمادها في التصدي للأزمات, ولكنهم اليوم يعترفون بإفلاسها, أو على الأقل عجزها عن التصدي للأزمة الراهنة, ويعتقد خبراء الصندوق أن الرهان الآن معقود على إجراءات للحد من تراجع الطلب والناتج العام, واعترف خبراء صندوق النقد بخطأ مدرستهم السابقة, ولكنهم برروا ذلك بالقول: إنه من الطبيعي في الأحوال العادية أن يوصي صندوق النقد بتخفيض عجز الموازنة وحجم الدين العام, لكن الظروف الراهنة ليست عادية, وميزان المخاطر اليوم يختلف تمام الاختلاف, علماً أن التوصيات السابقة الخاطئة لصندوق النقد كانت مكرسة لمعالجة أزمات بلدان محددة, ولكنها تعاني من مخاطر لا تقل عن مخاطر الأزمة الاقتصادية الحالية, بيد أن الأزمات السابقة كانت محصورة في الدول النامية حينذاك, في حين أنها الآن تضرب الدول المتقدمة التي تهيمن على صندوق النقد الدولي

الصين والأزمة الاقتصاديـــــــة العالميــــة
تبدو الصين البلد الأكثر تضرراً من الأزمة الاقتصاديـــــــة العالميــــة, كونها أكثر دول العالم اندماجاً في الاقتصاد العالمي. فبحسب تقديرات رسمية تأمل الحكومة الصينية أن يحافظ الاستهلاك الداخلي على نسبة معقولة من النمو لا تقل عن 8%, وعلى الرغم من أن هذه النسبة هي أقل من معدل النمو المحقق في العام الماضي والتي بلغت 11%, إلا أن الحكومة الصينية لم تكن ترغب بأن يواصل الاقتصاد الصيني نموه المرتفع جداً خوفاً من التضخم, ومن وصوله إلى درجة الإشباع في فترة قصيرة, الأمر الذي يعني أنه يعود ليتراجع بقوة ويؤدي إلى سلسلة كبيرة من المشكلات, وكانت الحكومة الصينية تعمل في السنوات الماضية بين فترة وأخرى من أجل كبح النمو ليتراوح عند معدل 8% . هكذا يبدو أن معدل نمو عند حدود 8% لا يتعارض مع السياسة الرسمية الصينية سواء كانت هناك أزمة يواجهها الاقتصاد العالمي أم لا؟ وبالتالي فإن الأزمة الاقتصادية العالمية, قد تكون فرصة للصين لضبط النمو المرتفع الذي كان يثير القلق لديها من تداعياته السلبية.وتعتقد الحكومة الصينية أن المعدل المستهدف من شأنه أن يخلق ما يكفي من فرص العمل القادرة على استيعاب قوة العمل المتزايدة, لتدارك ارتفاع نسبة البطالة وتسببها بأزمة اجتماعية.‏ ويبدو أن الصين تراهن للإفلات من تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية على العوامل التالية: أولاً: ضخامة وسعة السوق الصينية, فقد أشارت تقارير نشرت مؤخراً عن وكالات السيارات, وهي أكثر الصناعات المتضررة في الأزمة الاقتصادية الحالية,أن السيارات تسجل نسب مبيعات معقولة, حيث بدت الصين وكأنها تبحر بعيداً عن مرافئ الركود الذي يخيم الآن على الأسواق العالمية, كما يقول أحد المحللين الغربيين. ثانياً: الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الصينية في محاولة منها لامتصاص التداعيات السلبية على الاقتصاد. وتتراوح هذه الإجراءات بين وضع خطة, وصفت بأنها قياسية, لتنشيط الاقتصاد بعد أن تم تخصيص 600 مليار دولار لإنفاقها على مشاريع بناء البنية التحتية, مثل الطرق والجسور والأحياء السكنية, ومحطات توليد الطاقة, والرهان معقود على أن يؤدي الإنفاق على البنية التحتية إلى تعزيز الطلب في بعض الصناعات الأساسية كالفولاذ والإسمنت, إضافةً إلى تنشيط العمالة في قطاع المقاولات. وتشمل أيضاً إجراءات الحكومة الصينية لتحفيز الاقتصاد, زيادة الأجور, وخفض الضرائب على القطاع العقاري, وتخفيضات في أسعار عدد من السلع المعمرة مثل الثلاجات والهواتف النقالة وأجهزة التلفزيون. وبديهي أن هذه الصناعات, إضافةً إلى صناعة الفولاذ والإسمنت, من شأنها أن تحد من احتمال ركود هذه الصناعات وتعوض عن خسائر التصدير, خاصةً أن فعالية هذه الإجراءات في دولة يبلغ عدد سكانها أكثر من مليار و300 مليون نسمة كفيلة بخلق دينامية اقتصادية تساعد الحكومة الصينية على تحقيق هدفها المنشود, أي الحفاظ على معدل نمو يتناسب مع الخطة الموضوعة لتنمية الصين والمستمرة منذ نهاية عقد السبعينات من القرن الماضي. ثالثاً: القدرة التنافسية للاقتصاد الصيني, ذلك أن الصين تنتج السلع ذاتها التي تنتجها المصانع في الدول الاقتصادية المتقدمة, ولكن بتكلفة أقل بسبب تدني تكلفة مدخلات صناعة هذه السلع, وهذا أدى إلى الإقبال على شراء السلع الصناعية في أسواق الدول المتقدمة والعزوف عن شراء السلع المثيلة بسبب الفرق في الأسعار الذي يناسب تدني القدرة الشرائية لدى المستهلكين في الدول المتقدمة التي نجمت عن الأزمة الاقتصادية.‏ هذه العوامل الثلاثة متضافرة تؤكد أن الصين ستكون بمنأى عن التداعيات السلبية الحادة للأزمة الاقتصادية العالمية على عكس حال أوروبا والولايات المتحدة واليابان, وحتى دول أخرى مثل روسيا.‏